سورة مريم - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}.
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}
قال ابن جريج: لم يَعدْ ربه عدة إلا أنجزها، يعني: ما التزم قط عبادة بنذر إلا قام بها، ووفاها حقها.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن سهل بن عقيل حدثه، أن إسماعيل النبي، عليه السلام، وعد رجلا مكانًا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا. قال: إني نسيت. قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني. فلذلك {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}.
وقال سفيان الثوري: بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه.
وقال ابن شَوْذَب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع سكنًا.
وقد روى أبو داود في سننه، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق من طريق إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد الله بن مَيْسَرة، عن عبد الكريم- يعني: ابن عبد الله بن شَقيق- عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليّ بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك، فقال لي: «يا فتى، لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» لفظ الخرائطي، وساق آثارًا حسنة في ذلك.
ورواه ابن مَنْده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة، بإسناده عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن بُدَيْل بن ميسرة، عن عبد الكريم، به.
وقال بعضهم: إنما قيل له: {صَادِقَ الْوَعْدِ}؛ لأنه قال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فصدق في ذلك.
فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خُلْفَه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضًا، لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفّى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب، فقال: «حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي». ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَةٌ أو دَيْن فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال: «لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا»، يعني: ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرًا، فغرف بيديه من المال، ثم أمره بِعَدّه، فإذا هو خمسمائة درهم، فأعطاه مثليها معها.
وقوله: {وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل...» وذكر تمام الحديث، فدل على صحة ما قلناه.
وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}: هذا أيضًا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة، حيث كان مثابرًا على طاعة ربه آمرًا بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} الآية [التحريم: 6] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نَضَح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء». أخرجه أبو داود، وابن ماجه.
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات». رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ له.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}.
وهذا ذكر إدريس، عليه السلام، بالثناء عليه، بأنه كان صديقًا نبيًّا، وأن الله رفعه مكانًا عليًّا. وقد تقدم في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة.
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شَمِر بن عطية، عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله- عز وجل- لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت، فَلْيؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه، حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري. قال ملك الموت: فالعجب! بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة. فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.
هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس: أنه سأل كعبًا، فذكر نحو ما تقدم، غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله- يعني: ملك الموت- كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه، وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجله، قال: لا أدري حتى أنظر، ثم نظر، قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه إلى إدريس، فإذا هو قد قبض، عليه السلام، وهو لا يشعر به.
ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس: أن إدريس كان خياطًا، فكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه.
وذكر بقيته كالذي قبله، أو نحوه.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال: إدريس رفع ولم يمت، كما رفع عيسى.
وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال: رفع إلى السماء الرابعة.
وقال العوفي عن ابن عباس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال: رفع إلى السماء السادسة فمات بها.
وهكذا قال الضحاك بن مُزَاحم.
وقال الحسن، وغيره، في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال: الجنة.


{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
يقول تعالى هؤلاء النبيون- وليس المراد هؤلاء المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس- {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الآية.
قال السدي وابن جرير، رحمه الله: فالذي عنى به من ذرية آدم: إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح: إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم: إسحاق ويعقوب وإسماعيل، والذي عنى به من ذرية إسرائيل: موسى، وهارون، وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم.
قال ابن جرير: ولذلك فرّق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم؛ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة، وهو إدريس، فإنه جد نوح.
قلت: هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح، عليهما السلام. وقد قيل: إنه من أنبياء بني إسرائيل، أخذًا من حديث الإسراء، حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح»، ولم يقل: والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح بعثه الله إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، ويعملوا ما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله عز وجل.
ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء، أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إلى أن قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام 83- 90] وقال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]. وفي صحيح البخاري، عن مجاهد: أنه سأل ابن عباس: أفي (ص) سجدة؟ قال نعم، ثم تلا هذه الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، فنبيكم ممن أُمِر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم، يعني داود.
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة.
والبُكِيّ: جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعًا لمنوالهم.
قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر قال: قرأ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سورة مريم، فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكى؟ يريد البكاء.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وسَقَط من روايته ذكر أبي معمر فيما رأيت، والله أعلم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9